هل يجب أن يتم تثبيت سعر الفائدة حتى عام 2026؟ لا تركز على 25 نقطة أساس، فهي مجرد مظهر خارجي؛ الخطر الحقيقي يكمن في الضغط الثلاثي من الديون، والأسواق، والسياسة الذي يضغط على الاحتياطي الفيدرالي—تحليل المنطق العميق وراء تعثر السياسة النقدية الأمريكية في حالة الجمود الهيكلي وتأثيره على تسعير الأصول العالمية
أصدرت شركة Madison Investments مؤخرًا حكمًا استراتيجيًا صادمًا في ظل مظاهر استقرار الأسواق المالية. وأوضحت بوضوح: "قد يضطر الاحتياطي الفيدرالي إلى الحفاظ على مستوى سعر الفائدة الحالي حتى الربع الثاني من عام 2026." السبب وراء إثارة هذا الحكم لقلق عميق في السوق ليس في مدته المتوقعة بحد ذاتها، بل في التحول الجذري في منطق السياسة النقدية الذي يكشف عنه—وهذا ليس مجرد "توقف عن خفض الفائدة" أو "مراقبة متشددة"، بل هو حالة تقارب "تجميد سعر الفائدة" (Rate Freeze): حيث يتم تجميدها على مستوى مرتفع لفترة طويلة، مع إبقائها ثابتة، وفقدان مرونة السياسة بشكل استباقي.
عندما يستمر سعر الفائدة المرجعي لاقتصاد رئيسي في مستوى مقيد لأكثر من عام ونصف، فإن معناه يتجاوز مجرد تمديد دورة التشديد النقدي. فهو يعني أن معايير تسعير الأصول في السوق، ونماذج المخاطر، ونظام الترابط بين الأصول كلها ستواجه إعادة تقييم منهجية. بالمقارنة مع التعديلات الدورية في رفع أو خفض الفائدة، فإن هذا "السكون السياسي" يحمل مخاطر أكثر خفاءً، لكنه أكثر تدميرًا. ومع ذلك، فإن الأمر الذي يستحق الحذر الحقيقي ليس في هذا الاستنتاج ذاته، بل في المنطق الأساسي الذي يقوده: فالاحتياطي الفيدرالي لم يختَر هذا المسار بشكل طوعي، بل اضطر لقبوله تحت ضغط ثلاثي من الديون، والأسواق، والسياسة—كحل أدنى من المثالي. سنقوم بتحليل عميق لآلية تكوين هذا الجمود السياسي، والخصائص التقنية، ومسارات انتقال المخاطر النظامية، وتداعياته على استراتيجيات تخصيص الأصول العالمية.
في شرح حكمه، أشار كبير الاقتصاديين في Madison، Saunders، إلى نقطة مركزية غالبًا ما تتجاهلها الأسواق: "تأثير السياسة النقدية على السوق محدود بشكل كبير." جوهر هذا التصريح هو التشكيك الجذري في فعالية أدوات السياسة النقدية التقليدية. خلال الأربعين عامًا الماضية من إدارة دورة التضخم، اعتاد السوق وصانعو السياسات على اعتبار أدوات سعر الفائدة بمثابة المفتاح السحري لتنظيم الدورة الاقتصادية—عندما يكون التضخم مرتفعًا، يتم رفع الفائدة للضغط، وعندما يكون الاقتصاد ضعيفًا، يتم خفضها للتحفيز. لكن التحدي الحالي الذي يواجه الاقتصاد الأمريكي ليس دورة ارتفاع عادية، بل تشوهات هيكلية عميقة.
وتتجلى محدودية الأدوات في أربعة أبعاد متداخلة:
الأول، انفلات العجز المالي. وفقًا لأحدث بيانات مكتب الميزانية بالكونغرس (CBO)، من المتوقع أن يصل العجز الفيدرالي في السنة المالية 2024 إلى 6.8% من الناتج المحلي الإجمالي، متجاوزًا المتوسط التاريخي بكثير. والأخطر أن هذا التوسع في العجز ليس إجراء مؤقتًا خلال الحرب أو الأزمة، بل هو خلل هيكلي في ظل حالة التوظيف الكامل. عندما تتعادل سياسة التوسع المالي مع تشديد السياسة النقدية، فإن تأثير أدوات سعر الفائدة على الطلب الكلي يتآكل بشكل كبير. فكل زيادة بمقدار نقطة مئوية واحدة في سعر الفائدة تساهم في تقليل الطلب، قد يتم تعويضها بسهولة من خلال الإنفاق التحفيزي الإضافي من الحكومة.
الثاني، فقدان التثبيت في توقعات التضخم طويلة الأمد. على الرغم من تراجع بيانات التضخم قصيرة الأمد بسبب تأثير القاعدة الحسابية، إلا أن توقعات التضخم طويلة الأمد لم تستعد إلى النطاق المستهدف عند 2%. تظهر استطلاعات بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك أن متوسط توقعات التضخم لمدة ثلاث سنوات لا يزال فوق 3%. هذا التصلب يعكس شكوكًا جوهرية في قدرة عملية إزالة التضخم في أمريكا—عندما تستمر إعادة هيكلة سلاسل التوريد، والتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، والتوترات الجيوسياسية، فإن الاعتماد على إدارة الطلب وحده لن يحل التضخم الناتج عن التكاليف.
الثالث، تدهور سوق العمل بشكل غير خطي. معدل البطالة المنخفض يبدو أنه يخفي مشاكل أعمق مثل انخفاض معدل المشاركة، وعدم توازن هيكل الوظائف الشاغرة، وضعف نمو الأجور الحقيقي. تقارب فيليبس (Phillips Curve) يعني أن مساحة التوازن بين كبح التضخم وحماية التوظيف قد ضاقت بشكل كبير. أي تعديل في سعر الفائدة قد يؤدي إلى سيناريوهين سلبيين: رفع الفائدة يسرع من تباطؤ سوق العمل، وخفضها قد يؤدي إلى ارتفاع توقعات التضخم مجددًا.
الرابع، فائض سندات الخزانة الأمريكية وتشوّه علاوة المدة. من أجل سد العجز، تضطر وزارة الخزانة إلى إصدار المزيد من السندات، خاصة طويلة الأجل، مع زيادة المعروض. ومع تراجع الطلب على سندات طويلة الأجل من قبل البنوك المركزية الأجنبية (مثل بنك الشعب الصيني والبنك الياباني) وانخفاض القوة الشرائية للبنوك المحلية بسبب تدفق الودائع، فإن مرونة الطلب على السندات طويلة الأجل تتآكل. هذا يؤدي إلى انقطاع في آلية نقل السياسة النقدية—فبالرغم من قدرة الاحتياطي الفيدرالي على ضبط سعر الفائدة الفيدرالي (القصير)، إلا أن تأثيره على معدلات العائد على سندات 10 سنوات وما فوق يتراجع بشكل حاد. طبيعة ثبات العائد على المدى الطويل تعكس تقييم السوق لمخاطر الاستدامة المالية طويلة الأمد في أمريكا، وليس مجرد توقعات السياسة النقدية.
وبسبب تراكم هذه المشكلات الهيكلية، بدأ السوق يعيد تقييم مساحة السياسة لدى الاحتياطي الفيدرالي. كل تعديل في سعر الفائدة لم يعد مجرد إدارة لدورة اقتصادية، بل هو توازن على شفرة حلاقة—أي حركة قد تؤدي إلى تصعيد التوترات، وعدم التحرك قد يكون هو الخيار الأكثر أمانًا كنوع من "الدفاع الاستباقي". هذا هو السبب الجذري وراء توقعات "تجميد سعر الفائدة" التي تتسارع في الانتشار.
2. ظاهرة "تسطيح العائد" في منحنى العائد: أدلة تقنية على تراجع فعالية السياسة النقدية
في إطار السياسة النقدية التقليدية، يجب أن يصاحب بدء دورة خفض الفائدة انخفاض عام في منحنى العائد وتسطحه—حيث تنخفض أسعار الفائدة القصيرة بسرعة مع خفض سعر الفائدة، بينما تنخفض طويلة الأجل بشكل أقل، لكن الاتجاه واحد. لكن الظاهرة غير الاعتيادية الحالية هي أن أسعار الفائدة القصيرة، رغم تراجعها مع توقعات الخفض، فإن أسعار الفائدة الطويلة لا تنخفض، بل تظهر انتعاشًا ملحوظًا مؤخرًا، مما يؤدي إلى ظاهرة "تسطيح العائد" (Bull Steepening و Bear Steepening) تتبادل الأدوار بشكل غير متوقع.
وراء هذا الشكل التقني، تكمن ثلاث تناقضات عميقة:
الأول، تحقق توقعات التضخم الهيكلية ذاتيًا. يدرك المشاركون أن الضغوط التضخمية الحالية ليست قابلة للحل فقط عبر إدارة الطلب. فتكاليف إعادة هيكلة سلاسل التوريد، والتحول الأخضر، والتوترات الجيوسياسية، كلها عوامل تدعم التضخم طويل الأمد. لذلك، حتى مع خفض الاحتياطي الفيدرالي للفائدة على المدى القصير، لن تتراجع توقعات التضخم طويلة الأمد، بل قد تتصاعد بسبب التيسير المبكر، مما يرفع علاوة المدة.
الثاني، ضغط العجز المالي على معدلات العائد الطويلة. في ظل استمرار العجز المالي الأمريكي، فإن خفض الفائدة يقلل من تكاليف خدمة الدين، مما قد يحفز التوسع المالي أكثر. السوق يتوقع ذلك، ويطالب بعلاوة مدة أعلى لتعويض مخاطر التمويل المستقبلي. في سيناريو "السيطرة المالية" (Fiscal Dominance)، تفقد السياسة النقدية استقلاليتها، وتصبح معدلات العائد الطويلة مرآة لقيود الميزانية.
الثالث، تخفيض التصنيف الائتماني الطويل الأمد بشكل ضمني. رغم أن وكالات التصنيف لم تخفض التصنيف الائتماني السيادي لأمريكا رسميًا، إلا أن السوق يعبر عن ذلك من خلال الأسعار. استمرار ثبات العائد على المدى الطويل يعكس عدم ثقة المستثمرين في القوة الشرائية طويلة الأمد للدولار. عندما تعجز السياسة النقدية عن التأثير على العائد الطويل، فإن ذلك يعادل فشلًا جزئيًا في مصداقية البنك المركزي. ما قاله Saunders من أن "الجانب الأمامي لا يزال يمكن تحريكه، لكن الخلفي لا يسمعك" هو وصف مباشر لهذا الواقع المحرج.
وبالتالي، فإن ظاهرة تسطيح العائد تؤدي إلى أن يصبح الاحتياطي الفيدرالي مجرد صانع سياسات قادر على التأثير على سعر الفائدة الليلي، وليس على معدلات العائد على الأصول ذات الأمد الطويل، التي أصبحت في أدنى مستوياتها تاريخيًا. هذا "الجمود السياسي" هو أخطر من مجرد توقف عن خفض الفائدة، ويجب أن يحذر السوق أكثر.
3. لماذا يتم التثبيت حتى 2026؟ الضغط الرباعي للمخاطر النظامية ومنطق تجميد السياسة
الحكم بتثبيت سعر الفائدة حتى الربع الثاني من عام 2026 ليس بناءً على تفاؤل اقتصادي، بل هو رد فعل يائس ضد أربعة مخاطر نظامية تتداخل مع بعضها بشكل معقد، تشكل "مربع المستحيل" (Impossible Quadrangle)، حيث أن أي تعديل في السعر قد يثير أزمة في أحد الأبعاد الأربعة:
الخطر الأول: خفض الفائدة بسرعة قد يثير أزمة علاوة المدة في سوق السندات. خفض الفائدة يقلل الفارق بين العائد القصير والطويل، ويخفض العائد النسبي على السندات طويلة الأجل، مما يدفع المؤسسات (مثل صناديق التقاعد، وشركات التأمين) إلى تقليل حيازاتها من السندات طويلة الأجل. مع استمرار زيادة المعروض، فإن تراجع الطلب يؤدي إلى ارتفاع العائد على المدى الطويل، مسببًا انعكاسًا غير طبيعي في "خفض الفائدة—ارتفاع العائد الطويل". هذا حدث سابق في أزمة المعاشات البريطانية عام 2023، ويشترك معه مبدأ أن أي إشارة توسعية جذرية قد تضر بالمصلحة الأكبر، وهي وزارة الخزانة.
الخطر الثاني: خفض الفائدة ببطء قد يؤدي إلى هبوط حاد في سوق العمل. رغم أن معدل البطالة منخفض، إلا أن بيانات التوظيف غير الزراعي تظهر تدهورًا في الجودة، مع زيادة الوظائف الجزئية، وتباطؤ الأجور، وارتفاع إعلانات التسريح. في تقرير السياسة النقدية الأخير، اعترف الاحتياطي الفيدرالي لأول مرة بوجود "علامات هامشية للضعف" في سوق العمل، مما أدى إلى رد فعل متفائل في سوق السندات، حيث كشف عن تقلص مساحة السياسة. إذا استمر الاقتصاد في الضعف مع استمرار ارتفاع الفائدة، فإن ذلك قد يعيد إلى الأذهان سياسات وولكر في أواخر الثمانينيات، حيث أدى التشديد المفرط إلى ركود عميق.
الخطر الثالث: انفلات العجز المالي ودوامة الموت. يتوقع أن تحتاج وزارة الخزانة الأمريكية إلى إصدار أكثر من 2.5 تريليون دولار من الديون الجديدة في السنة المالية 2024-2025 لتغطية العجز، مع ارتفاع أسعار الفائدة، يزداد عبء الدين، ويضعف الاستدامة المالية، ويزيد من مخاطر التمويل المستقبلي. أي قرار في سعر الفائدة قد يُفسر على أنه دعم أو تواطؤ مع العجز، مما يعزز توقعات التضخم طويلة الأمد.
الخطر الرابع: عدم توافق السياسات النقدية العالمية وتدفقات رأس المال. تتباين سياسات البنوك المركزية العالمية بشكل غير مسبوق—البنك الياباني يحاول الخروج من الفائدة السلبية، والبنك الأوروبي يتردد بين التضخم والنمو، وأستراليا تتبع سياسة تعتمد على البيانات. في ظل ذلك، فإن تقلبات أسعار الفائدة الأمريكية ستؤثر على العملات، وتسبب تدفقات رأس مال عابرة للحدود، وتؤثر على الأسواق الناشئة، وتعيد تشكيل الشروط المالية الأمريكية، مما يحد من استقلالية الاحتياطي الفيدرالي.
تاريخيًا، اتبعت الاحتياطي الفيدرالي ثلاث فترات مختلفة من "تجميد السياسة": بداية التضخم الجامح في السبعينيات، فترة تأكيد ازدهار الإنتاجية في التسعينيات، وسياسة الفائدة المنخفضة بعد الأزمة المالية 2008. كل فترة من هذه الفترات، رغم اختلاف الظروف، شهدت تقلبات حادة في الأصول وتباينات بين القطاعات. تعقيد وتوترات الوضع الحالي قد تتجاوز كل الأمثلة السابقة.
4. تدهور سوق العمل: المتغير الأخير الذي يطلق الجمود السياسي
من بين العوامل الهيكلية، فإن تدهور سوق العمل هو العامل الأخير الذي يدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى قرار "التجميد". أكد Saunders على أن اعتراف باول بـ"ضعف سوق العمل" أدى إلى رد فعل متسلسل: سوق السندات لم ينخفض بسبب التوقعات بالتيسير، بل ارتفعت علاوة المدة. هذا الظاهرة غير المنطقية تكشف عن آلية رئيسية:
سوق العمل هو "المركز العصبي" للاقتصاد، وتدهوره يرسل إشارتين متناقضتين: من جهة، تباطؤ الطلب يخفف الضغوط التضخمية قصيرة الأمد، ويتيح مساحة للتيسير؛ من جهة أخرى، تراجع النشاط الاقتصادي يزيد من مخاوف السوق بشأن النمو طويل الأمد، ومع استمرار العجز المالي، فإن الحكومة تحتاج إلى الاقتراض أكثر، مما يفاقم استدامة الدين على المدى الطويل. هذا الانقسام بين "منافع قصيرة الأمد" و"مخاطر طويلة الأمد" يؤدي إلى تسطيح منحنى العائد بشكل متزايد.
الأخطر أن تدهور سوق العمل غير متساوٍ، فمع بقاء معدلات الوظائف الشاغرة أعلى من مستويات ما قبل الجائحة، فإن أي انخفاض حدي في الطلب على العمالة قد يتحول بسرعة إلى ارتفاع غير خطي في معدل البطالة. الاحتياطي الفيدرالي لديه حساسية عالية تجاه هذا الخطر، لأنه يواجه ضغطًا مزدوجًا بين هدف التوظيف، والحذر من ركود اقتصادي قد يفاقم العجز المالي. عند ظهور إشارات واضحة على ركود سوق العمل، فإن خيارات السياسة ستصبح أمام معضلة حقيقية: خفض الفائدة قد يؤدي إلى هبوط في سوق السندات، وعدم خفضها قد يطيل من أمد الركود. في هذه الحالة، الخيار الأفضل هو "الانتظار"—لا رفع الفائدة لمنع التضخم، ولا خفضها لتجنب تدهور الاقتصاد، وإنما الانتظار حتى تتضح معالم التكيف الهيكلي.
ما قاله Saunders عن أن "الجانب الأمامي يمكن تحريكه، لكن الخلفي لا يسمعك" هو وصف مباشر لهذا الواقع المحبط: أدوات السياسة محدودة، والأهداف متضاربة، والبيئة الخارجية معقدة، مما يفرض قيودًا صارمة على السياسات.
5. إعادة بناء نموذج الاستثمار: في "فترة الفراغ السياسي" البحث عن مرساة اليقين
عندما يتم تثبيت سعر الفائدة حتى 2026، فإن إطار تخصيص الأصول التقليدي المبني على دورة السياسات النقدية سيبدأ في فقدان فعاليته. على المستثمرين أن يدركوا أن السوق في العامين المقبلين لن يكون بقيادة بيانات اجتماعات اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، بل من خلال هيكل التدفقات المالية والتغيرات الهيكلية في الاقتصاد. بشكل محدد، ستواجه ستة قطاعات أصولية إعادة تقييم جذرية:
1. سوق السندات طويلة الأمد: مخاطر تقلب عالية وعلاوة مدة مرتفعة. مع اختلال العرض والطلب وإعادة تقييم مخاطر الائتمان، فإن تسعير سندات العشر سنوات وما فوق سيعكس بشكل أكبر استدامة المالية العامة بدلاً من توقعات السياسة النقدية. هذا يعني ارتفاع مخاطر المدة (Duration Risk)، وضعف جاذبية السندات التقليدية كملاذ آمن. على المستثمرين تقصير المدة، وزيادة حساسيةهم لتغيرات فرق الائتمان، أو استخدام استراتيجيات تسطيح المنحنى للتحوط.
2. سعر صرف الدولار: توازن بين دعم الفائدة الهيكلية والمخاطر المالية. رغم أن تثبيت سعر الفائدة يمنح الدولار ميزة فارق الفائدة، إلا أن مخاطر فقدان السيطرة على العجز المالي ستضعف مكانته كعملة احتياطية على المدى الطويل. قد يدخل الدولار في نطاق تقلبات واسعة، بدون محفزات واضحة للانخفاض أو الارتفاع المستمر. بالنسبة للمستثمرين عبر الحدود، فإن تكاليف التحوط من العملة ستؤثر على العوائد.
3. الذهب والأصول الرقمية: تبرز وظيفة حفظ القيمة غير السيادية. مع تراجع مصداقية السياسات النقدية السيادية، وتهديدات الدين العام لقوة العملة، فإن الذهب والبيتكوين وغيرها من الأصول غير السيادية ستكتسب علاوات نظامية. فهي لا تعكس فقط توقعات التضخم، بل تعتبر خيارات تسعير لعناصر استقرار النظام المالي. خلال فترة التجميد، قد تتغير علاقاتها مع الأصول عالية المخاطر، وتصبح أدوات تنويع حقيقية.
4. الأسهم التقنية: من تقييمات التوسع إلى جودة الأرباح. استمرار ثبات معدلات الفائدة الخالية من المخاطر سيقضي على أسطورة "أسهم النمو ذات المدى الطويل". السوق سينتقل من تقييم التدفقات النقدية المستقبلية إلى تقييم دقيق للأرباح الحالية واستقرار التدفقات النقدية. الشركات ذات الهوامش العالية، والأرباح المستقرة، والإنفاق الرأسمالي الموجه ستبرز، بينما ستواجه الأسهم ذات القصص التوسعية المفرطة تراجعًا في مركز التقييم.
5. الأسواق الناشئة: حساسة جدًا لتغيرات السيولة العالمية. مع ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية وتذبذب العملات، ستظهر ظاهرة "ثنائية التباين" في أصول الأسواق الناشئة—الاقتصادات ذات الحساب الجاري القوي، والدين الخارجي المنخفض، والانضباط المالي ستجذب تدفقات ملاذ آمن، بينما الدول ذات العجز العالي ستواجه نزوح رأس المال وتدهور العملة. التذبذب سيكون أعلى بكثير من الأسواق المتقدمة.
6. الأصول المشفرة: مؤشرات مبكرة على تغيرات السيولة ومضاعفات المخاطر. بالمقارنة مع الأسواق التقليدية، فإن سوق العملات المشفرة أكثر حساسية لتغيرات السيولة العالمية، وتذبذبها أكبر بسبب ضعف الإطار التنظيمي، مما يجعل أسعارها تعكس بشكل أكثر صدق مشاعر الملاذ الآمن والمضاربة. خلال فترات غموض السياسات، قد تتقدم البيتكوين والإيثيريوم على الأصول التقليدية في تحديد القاع أو القمة، وتصبح "الكناري" لمخاطر السوق العالمية.
الخلاصة: كيف يعيد السوق كتابة قواعد التقييم عندما تصل أدوات البنوك المركزية إلى حدودها
حكم Madison Investments يكشف في جوهره عن حقيقة مقلقة: أدوات السياسة النقدية لدى الاحتياطي الفيدرالي على وشك الوصول إلى حدود فعاليتها. التجميد ليس خيارًا استباقيًا، بل هو دفاع استسلامي في ظل ظروف معقدة. عندما يرسل البنك المركزي إشارة واضحة بأن "لم يتبق لي الكثير من القدرة على التحرك، فلا تتوقعوا مني شيئًا بعد الآن"، فإن قواعد تسعير الأصول تبدأ في الانتقال من صانعي السياسات إلى المشاركين في السوق.
خلال عامي 2024-2026، ستكون القصة الحقيقية في الأسواق المالية العالمية ليست في رفع أو خفض الاحتياطي الفيدرالي ل25 نقطة أساس، بل في كيفية إعادة السوق تسعير المخاطر في ظل فقدان السيطرة على العجز الهيكلي، والتشوهات في التوازنات، واستنزاف الثقة في التمويل. في هذه العملية، ستصبح اليقينية نادرة، و"عدم اليقين" هو القاعدة الكبرى. على المستثمرين أن يتخلوا عن الاعتماد الأعمى على التيسير، وأن يبنوا محافظ تعتمد على التدفقات النقدية، وجودة الائتمان، والتحوط غير السيادي، كبديل عن "ما بعد السياسة النقدية".
تُظهر التجارب التاريخية أن كل انهيار وإعادة بناء لإطار السياسة النقدية يصاحبه انتقال هائل للثروات. أولئك الذين يفهمون بسرعة منطق "تجميد سعر الفائدة"، ويعدلون استراتيجياتهم بسرعة، سيكونون في مقدمة الرابحين في هذه الثورة الصامتة.
قد تحتوي هذه الصفحة على محتوى من جهات خارجية، يتم تقديمه لأغراض إعلامية فقط (وليس كإقرارات/ضمانات)، ولا ينبغي اعتباره موافقة على آرائه من قبل Gate، ولا بمثابة نصيحة مالية أو مهنية. انظر إلى إخلاء المسؤولية للحصول على التفاصيل.
هل يجب أن يتم تثبيت سعر الفائدة حتى عام 2026؟ لا تركز على 25 نقطة أساس، فهي مجرد مظهر خارجي؛ الخطر الحقيقي يكمن في الضغط الثلاثي من الديون، والأسواق، والسياسة الذي يضغط على الاحتياطي الفيدرالي—تحليل المنطق العميق وراء تعثر السياسة النقدية الأمريكية في حالة الجمود الهيكلي وتأثيره على تسعير الأصول العالمية
أصدرت شركة Madison Investments مؤخرًا حكمًا استراتيجيًا صادمًا في ظل مظاهر استقرار الأسواق المالية. وأوضحت بوضوح: "قد يضطر الاحتياطي الفيدرالي إلى الحفاظ على مستوى سعر الفائدة الحالي حتى الربع الثاني من عام 2026." السبب وراء إثارة هذا الحكم لقلق عميق في السوق ليس في مدته المتوقعة بحد ذاتها، بل في التحول الجذري في منطق السياسة النقدية الذي يكشف عنه—وهذا ليس مجرد "توقف عن خفض الفائدة" أو "مراقبة متشددة"، بل هو حالة تقارب "تجميد سعر الفائدة" (Rate Freeze): حيث يتم تجميدها على مستوى مرتفع لفترة طويلة، مع إبقائها ثابتة، وفقدان مرونة السياسة بشكل استباقي.
عندما يستمر سعر الفائدة المرجعي لاقتصاد رئيسي في مستوى مقيد لأكثر من عام ونصف، فإن معناه يتجاوز مجرد تمديد دورة التشديد النقدي. فهو يعني أن معايير تسعير الأصول في السوق، ونماذج المخاطر، ونظام الترابط بين الأصول كلها ستواجه إعادة تقييم منهجية. بالمقارنة مع التعديلات الدورية في رفع أو خفض الفائدة، فإن هذا "السكون السياسي" يحمل مخاطر أكثر خفاءً، لكنه أكثر تدميرًا. ومع ذلك، فإن الأمر الذي يستحق الحذر الحقيقي ليس في هذا الاستنتاج ذاته، بل في المنطق الأساسي الذي يقوده: فالاحتياطي الفيدرالي لم يختَر هذا المسار بشكل طوعي، بل اضطر لقبوله تحت ضغط ثلاثي من الديون، والأسواق، والسياسة—كحل أدنى من المثالي. سنقوم بتحليل عميق لآلية تكوين هذا الجمود السياسي، والخصائص التقنية، ومسارات انتقال المخاطر النظامية، وتداعياته على استراتيجيات تخصيص الأصول العالمية.
1. تبرز محدودية أدوات السياسة النقدية وتشكيل توقعات "تجميد سعر الفائدة"
في شرح حكمه، أشار كبير الاقتصاديين في Madison، Saunders، إلى نقطة مركزية غالبًا ما تتجاهلها الأسواق: "تأثير السياسة النقدية على السوق محدود بشكل كبير." جوهر هذا التصريح هو التشكيك الجذري في فعالية أدوات السياسة النقدية التقليدية. خلال الأربعين عامًا الماضية من إدارة دورة التضخم، اعتاد السوق وصانعو السياسات على اعتبار أدوات سعر الفائدة بمثابة المفتاح السحري لتنظيم الدورة الاقتصادية—عندما يكون التضخم مرتفعًا، يتم رفع الفائدة للضغط، وعندما يكون الاقتصاد ضعيفًا، يتم خفضها للتحفيز. لكن التحدي الحالي الذي يواجه الاقتصاد الأمريكي ليس دورة ارتفاع عادية، بل تشوهات هيكلية عميقة.
وتتجلى محدودية الأدوات في أربعة أبعاد متداخلة:
الأول، انفلات العجز المالي. وفقًا لأحدث بيانات مكتب الميزانية بالكونغرس (CBO)، من المتوقع أن يصل العجز الفيدرالي في السنة المالية 2024 إلى 6.8% من الناتج المحلي الإجمالي، متجاوزًا المتوسط التاريخي بكثير. والأخطر أن هذا التوسع في العجز ليس إجراء مؤقتًا خلال الحرب أو الأزمة، بل هو خلل هيكلي في ظل حالة التوظيف الكامل. عندما تتعادل سياسة التوسع المالي مع تشديد السياسة النقدية، فإن تأثير أدوات سعر الفائدة على الطلب الكلي يتآكل بشكل كبير. فكل زيادة بمقدار نقطة مئوية واحدة في سعر الفائدة تساهم في تقليل الطلب، قد يتم تعويضها بسهولة من خلال الإنفاق التحفيزي الإضافي من الحكومة.
الثاني، فقدان التثبيت في توقعات التضخم طويلة الأمد. على الرغم من تراجع بيانات التضخم قصيرة الأمد بسبب تأثير القاعدة الحسابية، إلا أن توقعات التضخم طويلة الأمد لم تستعد إلى النطاق المستهدف عند 2%. تظهر استطلاعات بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك أن متوسط توقعات التضخم لمدة ثلاث سنوات لا يزال فوق 3%. هذا التصلب يعكس شكوكًا جوهرية في قدرة عملية إزالة التضخم في أمريكا—عندما تستمر إعادة هيكلة سلاسل التوريد، والتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، والتوترات الجيوسياسية، فإن الاعتماد على إدارة الطلب وحده لن يحل التضخم الناتج عن التكاليف.
الثالث، تدهور سوق العمل بشكل غير خطي. معدل البطالة المنخفض يبدو أنه يخفي مشاكل أعمق مثل انخفاض معدل المشاركة، وعدم توازن هيكل الوظائف الشاغرة، وضعف نمو الأجور الحقيقي. تقارب فيليبس (Phillips Curve) يعني أن مساحة التوازن بين كبح التضخم وحماية التوظيف قد ضاقت بشكل كبير. أي تعديل في سعر الفائدة قد يؤدي إلى سيناريوهين سلبيين: رفع الفائدة يسرع من تباطؤ سوق العمل، وخفضها قد يؤدي إلى ارتفاع توقعات التضخم مجددًا.
الرابع، فائض سندات الخزانة الأمريكية وتشوّه علاوة المدة. من أجل سد العجز، تضطر وزارة الخزانة إلى إصدار المزيد من السندات، خاصة طويلة الأجل، مع زيادة المعروض. ومع تراجع الطلب على سندات طويلة الأجل من قبل البنوك المركزية الأجنبية (مثل بنك الشعب الصيني والبنك الياباني) وانخفاض القوة الشرائية للبنوك المحلية بسبب تدفق الودائع، فإن مرونة الطلب على السندات طويلة الأجل تتآكل. هذا يؤدي إلى انقطاع في آلية نقل السياسة النقدية—فبالرغم من قدرة الاحتياطي الفيدرالي على ضبط سعر الفائدة الفيدرالي (القصير)، إلا أن تأثيره على معدلات العائد على سندات 10 سنوات وما فوق يتراجع بشكل حاد. طبيعة ثبات العائد على المدى الطويل تعكس تقييم السوق لمخاطر الاستدامة المالية طويلة الأمد في أمريكا، وليس مجرد توقعات السياسة النقدية.
وبسبب تراكم هذه المشكلات الهيكلية، بدأ السوق يعيد تقييم مساحة السياسة لدى الاحتياطي الفيدرالي. كل تعديل في سعر الفائدة لم يعد مجرد إدارة لدورة اقتصادية، بل هو توازن على شفرة حلاقة—أي حركة قد تؤدي إلى تصعيد التوترات، وعدم التحرك قد يكون هو الخيار الأكثر أمانًا كنوع من "الدفاع الاستباقي". هذا هو السبب الجذري وراء توقعات "تجميد سعر الفائدة" التي تتسارع في الانتشار.
2. ظاهرة "تسطيح العائد" في منحنى العائد: أدلة تقنية على تراجع فعالية السياسة النقدية
في إطار السياسة النقدية التقليدية، يجب أن يصاحب بدء دورة خفض الفائدة انخفاض عام في منحنى العائد وتسطحه—حيث تنخفض أسعار الفائدة القصيرة بسرعة مع خفض سعر الفائدة، بينما تنخفض طويلة الأجل بشكل أقل، لكن الاتجاه واحد. لكن الظاهرة غير الاعتيادية الحالية هي أن أسعار الفائدة القصيرة، رغم تراجعها مع توقعات الخفض، فإن أسعار الفائدة الطويلة لا تنخفض، بل تظهر انتعاشًا ملحوظًا مؤخرًا، مما يؤدي إلى ظاهرة "تسطيح العائد" (Bull Steepening و Bear Steepening) تتبادل الأدوار بشكل غير متوقع.
وراء هذا الشكل التقني، تكمن ثلاث تناقضات عميقة:
الأول، تحقق توقعات التضخم الهيكلية ذاتيًا. يدرك المشاركون أن الضغوط التضخمية الحالية ليست قابلة للحل فقط عبر إدارة الطلب. فتكاليف إعادة هيكلة سلاسل التوريد، والتحول الأخضر، والتوترات الجيوسياسية، كلها عوامل تدعم التضخم طويل الأمد. لذلك، حتى مع خفض الاحتياطي الفيدرالي للفائدة على المدى القصير، لن تتراجع توقعات التضخم طويلة الأمد، بل قد تتصاعد بسبب التيسير المبكر، مما يرفع علاوة المدة.
الثاني، ضغط العجز المالي على معدلات العائد الطويلة. في ظل استمرار العجز المالي الأمريكي، فإن خفض الفائدة يقلل من تكاليف خدمة الدين، مما قد يحفز التوسع المالي أكثر. السوق يتوقع ذلك، ويطالب بعلاوة مدة أعلى لتعويض مخاطر التمويل المستقبلي. في سيناريو "السيطرة المالية" (Fiscal Dominance)، تفقد السياسة النقدية استقلاليتها، وتصبح معدلات العائد الطويلة مرآة لقيود الميزانية.
الثالث، تخفيض التصنيف الائتماني الطويل الأمد بشكل ضمني. رغم أن وكالات التصنيف لم تخفض التصنيف الائتماني السيادي لأمريكا رسميًا، إلا أن السوق يعبر عن ذلك من خلال الأسعار. استمرار ثبات العائد على المدى الطويل يعكس عدم ثقة المستثمرين في القوة الشرائية طويلة الأمد للدولار. عندما تعجز السياسة النقدية عن التأثير على العائد الطويل، فإن ذلك يعادل فشلًا جزئيًا في مصداقية البنك المركزي. ما قاله Saunders من أن "الجانب الأمامي لا يزال يمكن تحريكه، لكن الخلفي لا يسمعك" هو وصف مباشر لهذا الواقع المحرج.
وبالتالي، فإن ظاهرة تسطيح العائد تؤدي إلى أن يصبح الاحتياطي الفيدرالي مجرد صانع سياسات قادر على التأثير على سعر الفائدة الليلي، وليس على معدلات العائد على الأصول ذات الأمد الطويل، التي أصبحت في أدنى مستوياتها تاريخيًا. هذا "الجمود السياسي" هو أخطر من مجرد توقف عن خفض الفائدة، ويجب أن يحذر السوق أكثر.
3. لماذا يتم التثبيت حتى 2026؟ الضغط الرباعي للمخاطر النظامية ومنطق تجميد السياسة
الحكم بتثبيت سعر الفائدة حتى الربع الثاني من عام 2026 ليس بناءً على تفاؤل اقتصادي، بل هو رد فعل يائس ضد أربعة مخاطر نظامية تتداخل مع بعضها بشكل معقد، تشكل "مربع المستحيل" (Impossible Quadrangle)، حيث أن أي تعديل في السعر قد يثير أزمة في أحد الأبعاد الأربعة:
الخطر الأول: خفض الفائدة بسرعة قد يثير أزمة علاوة المدة في سوق السندات. خفض الفائدة يقلل الفارق بين العائد القصير والطويل، ويخفض العائد النسبي على السندات طويلة الأجل، مما يدفع المؤسسات (مثل صناديق التقاعد، وشركات التأمين) إلى تقليل حيازاتها من السندات طويلة الأجل. مع استمرار زيادة المعروض، فإن تراجع الطلب يؤدي إلى ارتفاع العائد على المدى الطويل، مسببًا انعكاسًا غير طبيعي في "خفض الفائدة—ارتفاع العائد الطويل". هذا حدث سابق في أزمة المعاشات البريطانية عام 2023، ويشترك معه مبدأ أن أي إشارة توسعية جذرية قد تضر بالمصلحة الأكبر، وهي وزارة الخزانة.
الخطر الثاني: خفض الفائدة ببطء قد يؤدي إلى هبوط حاد في سوق العمل. رغم أن معدل البطالة منخفض، إلا أن بيانات التوظيف غير الزراعي تظهر تدهورًا في الجودة، مع زيادة الوظائف الجزئية، وتباطؤ الأجور، وارتفاع إعلانات التسريح. في تقرير السياسة النقدية الأخير، اعترف الاحتياطي الفيدرالي لأول مرة بوجود "علامات هامشية للضعف" في سوق العمل، مما أدى إلى رد فعل متفائل في سوق السندات، حيث كشف عن تقلص مساحة السياسة. إذا استمر الاقتصاد في الضعف مع استمرار ارتفاع الفائدة، فإن ذلك قد يعيد إلى الأذهان سياسات وولكر في أواخر الثمانينيات، حيث أدى التشديد المفرط إلى ركود عميق.
الخطر الثالث: انفلات العجز المالي ودوامة الموت. يتوقع أن تحتاج وزارة الخزانة الأمريكية إلى إصدار أكثر من 2.5 تريليون دولار من الديون الجديدة في السنة المالية 2024-2025 لتغطية العجز، مع ارتفاع أسعار الفائدة، يزداد عبء الدين، ويضعف الاستدامة المالية، ويزيد من مخاطر التمويل المستقبلي. أي قرار في سعر الفائدة قد يُفسر على أنه دعم أو تواطؤ مع العجز، مما يعزز توقعات التضخم طويلة الأمد.
الخطر الرابع: عدم توافق السياسات النقدية العالمية وتدفقات رأس المال. تتباين سياسات البنوك المركزية العالمية بشكل غير مسبوق—البنك الياباني يحاول الخروج من الفائدة السلبية، والبنك الأوروبي يتردد بين التضخم والنمو، وأستراليا تتبع سياسة تعتمد على البيانات. في ظل ذلك، فإن تقلبات أسعار الفائدة الأمريكية ستؤثر على العملات، وتسبب تدفقات رأس مال عابرة للحدود، وتؤثر على الأسواق الناشئة، وتعيد تشكيل الشروط المالية الأمريكية، مما يحد من استقلالية الاحتياطي الفيدرالي.
تاريخيًا، اتبعت الاحتياطي الفيدرالي ثلاث فترات مختلفة من "تجميد السياسة": بداية التضخم الجامح في السبعينيات، فترة تأكيد ازدهار الإنتاجية في التسعينيات، وسياسة الفائدة المنخفضة بعد الأزمة المالية 2008. كل فترة من هذه الفترات، رغم اختلاف الظروف، شهدت تقلبات حادة في الأصول وتباينات بين القطاعات. تعقيد وتوترات الوضع الحالي قد تتجاوز كل الأمثلة السابقة.
4. تدهور سوق العمل: المتغير الأخير الذي يطلق الجمود السياسي
من بين العوامل الهيكلية، فإن تدهور سوق العمل هو العامل الأخير الذي يدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى قرار "التجميد". أكد Saunders على أن اعتراف باول بـ"ضعف سوق العمل" أدى إلى رد فعل متسلسل: سوق السندات لم ينخفض بسبب التوقعات بالتيسير، بل ارتفعت علاوة المدة. هذا الظاهرة غير المنطقية تكشف عن آلية رئيسية:
سوق العمل هو "المركز العصبي" للاقتصاد، وتدهوره يرسل إشارتين متناقضتين: من جهة، تباطؤ الطلب يخفف الضغوط التضخمية قصيرة الأمد، ويتيح مساحة للتيسير؛ من جهة أخرى، تراجع النشاط الاقتصادي يزيد من مخاوف السوق بشأن النمو طويل الأمد، ومع استمرار العجز المالي، فإن الحكومة تحتاج إلى الاقتراض أكثر، مما يفاقم استدامة الدين على المدى الطويل. هذا الانقسام بين "منافع قصيرة الأمد" و"مخاطر طويلة الأمد" يؤدي إلى تسطيح منحنى العائد بشكل متزايد.
الأخطر أن تدهور سوق العمل غير متساوٍ، فمع بقاء معدلات الوظائف الشاغرة أعلى من مستويات ما قبل الجائحة، فإن أي انخفاض حدي في الطلب على العمالة قد يتحول بسرعة إلى ارتفاع غير خطي في معدل البطالة. الاحتياطي الفيدرالي لديه حساسية عالية تجاه هذا الخطر، لأنه يواجه ضغطًا مزدوجًا بين هدف التوظيف، والحذر من ركود اقتصادي قد يفاقم العجز المالي. عند ظهور إشارات واضحة على ركود سوق العمل، فإن خيارات السياسة ستصبح أمام معضلة حقيقية: خفض الفائدة قد يؤدي إلى هبوط في سوق السندات، وعدم خفضها قد يطيل من أمد الركود. في هذه الحالة، الخيار الأفضل هو "الانتظار"—لا رفع الفائدة لمنع التضخم، ولا خفضها لتجنب تدهور الاقتصاد، وإنما الانتظار حتى تتضح معالم التكيف الهيكلي.
ما قاله Saunders عن أن "الجانب الأمامي يمكن تحريكه، لكن الخلفي لا يسمعك" هو وصف مباشر لهذا الواقع المحبط: أدوات السياسة محدودة، والأهداف متضاربة، والبيئة الخارجية معقدة، مما يفرض قيودًا صارمة على السياسات.
5. إعادة بناء نموذج الاستثمار: في "فترة الفراغ السياسي" البحث عن مرساة اليقين
عندما يتم تثبيت سعر الفائدة حتى 2026، فإن إطار تخصيص الأصول التقليدي المبني على دورة السياسات النقدية سيبدأ في فقدان فعاليته. على المستثمرين أن يدركوا أن السوق في العامين المقبلين لن يكون بقيادة بيانات اجتماعات اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، بل من خلال هيكل التدفقات المالية والتغيرات الهيكلية في الاقتصاد. بشكل محدد، ستواجه ستة قطاعات أصولية إعادة تقييم جذرية:
1. سوق السندات طويلة الأمد: مخاطر تقلب عالية وعلاوة مدة مرتفعة. مع اختلال العرض والطلب وإعادة تقييم مخاطر الائتمان، فإن تسعير سندات العشر سنوات وما فوق سيعكس بشكل أكبر استدامة المالية العامة بدلاً من توقعات السياسة النقدية. هذا يعني ارتفاع مخاطر المدة (Duration Risk)، وضعف جاذبية السندات التقليدية كملاذ آمن. على المستثمرين تقصير المدة، وزيادة حساسيةهم لتغيرات فرق الائتمان، أو استخدام استراتيجيات تسطيح المنحنى للتحوط.
2. سعر صرف الدولار: توازن بين دعم الفائدة الهيكلية والمخاطر المالية. رغم أن تثبيت سعر الفائدة يمنح الدولار ميزة فارق الفائدة، إلا أن مخاطر فقدان السيطرة على العجز المالي ستضعف مكانته كعملة احتياطية على المدى الطويل. قد يدخل الدولار في نطاق تقلبات واسعة، بدون محفزات واضحة للانخفاض أو الارتفاع المستمر. بالنسبة للمستثمرين عبر الحدود، فإن تكاليف التحوط من العملة ستؤثر على العوائد.
3. الذهب والأصول الرقمية: تبرز وظيفة حفظ القيمة غير السيادية. مع تراجع مصداقية السياسات النقدية السيادية، وتهديدات الدين العام لقوة العملة، فإن الذهب والبيتكوين وغيرها من الأصول غير السيادية ستكتسب علاوات نظامية. فهي لا تعكس فقط توقعات التضخم، بل تعتبر خيارات تسعير لعناصر استقرار النظام المالي. خلال فترة التجميد، قد تتغير علاقاتها مع الأصول عالية المخاطر، وتصبح أدوات تنويع حقيقية.
4. الأسهم التقنية: من تقييمات التوسع إلى جودة الأرباح. استمرار ثبات معدلات الفائدة الخالية من المخاطر سيقضي على أسطورة "أسهم النمو ذات المدى الطويل". السوق سينتقل من تقييم التدفقات النقدية المستقبلية إلى تقييم دقيق للأرباح الحالية واستقرار التدفقات النقدية. الشركات ذات الهوامش العالية، والأرباح المستقرة، والإنفاق الرأسمالي الموجه ستبرز، بينما ستواجه الأسهم ذات القصص التوسعية المفرطة تراجعًا في مركز التقييم.
5. الأسواق الناشئة: حساسة جدًا لتغيرات السيولة العالمية. مع ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية وتذبذب العملات، ستظهر ظاهرة "ثنائية التباين" في أصول الأسواق الناشئة—الاقتصادات ذات الحساب الجاري القوي، والدين الخارجي المنخفض، والانضباط المالي ستجذب تدفقات ملاذ آمن، بينما الدول ذات العجز العالي ستواجه نزوح رأس المال وتدهور العملة. التذبذب سيكون أعلى بكثير من الأسواق المتقدمة.
6. الأصول المشفرة: مؤشرات مبكرة على تغيرات السيولة ومضاعفات المخاطر. بالمقارنة مع الأسواق التقليدية، فإن سوق العملات المشفرة أكثر حساسية لتغيرات السيولة العالمية، وتذبذبها أكبر بسبب ضعف الإطار التنظيمي، مما يجعل أسعارها تعكس بشكل أكثر صدق مشاعر الملاذ الآمن والمضاربة. خلال فترات غموض السياسات، قد تتقدم البيتكوين والإيثيريوم على الأصول التقليدية في تحديد القاع أو القمة، وتصبح "الكناري" لمخاطر السوق العالمية.
الخلاصة: كيف يعيد السوق كتابة قواعد التقييم عندما تصل أدوات البنوك المركزية إلى حدودها
حكم Madison Investments يكشف في جوهره عن حقيقة مقلقة: أدوات السياسة النقدية لدى الاحتياطي الفيدرالي على وشك الوصول إلى حدود فعاليتها. التجميد ليس خيارًا استباقيًا، بل هو دفاع استسلامي في ظل ظروف معقدة. عندما يرسل البنك المركزي إشارة واضحة بأن "لم يتبق لي الكثير من القدرة على التحرك، فلا تتوقعوا مني شيئًا بعد الآن"، فإن قواعد تسعير الأصول تبدأ في الانتقال من صانعي السياسات إلى المشاركين في السوق.
خلال عامي 2024-2026، ستكون القصة الحقيقية في الأسواق المالية العالمية ليست في رفع أو خفض الاحتياطي الفيدرالي ل25 نقطة أساس، بل في كيفية إعادة السوق تسعير المخاطر في ظل فقدان السيطرة على العجز الهيكلي، والتشوهات في التوازنات، واستنزاف الثقة في التمويل. في هذه العملية، ستصبح اليقينية نادرة، و"عدم اليقين" هو القاعدة الكبرى. على المستثمرين أن يتخلوا عن الاعتماد الأعمى على التيسير، وأن يبنوا محافظ تعتمد على التدفقات النقدية، وجودة الائتمان، والتحوط غير السيادي، كبديل عن "ما بعد السياسة النقدية".
تُظهر التجارب التاريخية أن كل انهيار وإعادة بناء لإطار السياسة النقدية يصاحبه انتقال هائل للثروات. أولئك الذين يفهمون بسرعة منطق "تجميد سعر الفائدة"، ويعدلون استراتيجياتهم بسرعة، سيكونون في مقدمة الرابحين في هذه الثورة الصامتة.